بلدة أشيقر التاريخيّة
هي إحدى بلدان إقليم الوشم الذي يتوسط منطقة نجد قلب الجزيرة العربية، تبعد أشيقر عن مدينة الرياض 200 كم جهة الشمال الغربي، وتقع على خط العرض 20، 25 شمالاً، وعلى خط الطول 11، 45 شرقاً. وسميت أشيقر نسبة إلى جبل أشيقر الذي يقع عنها شمالاً لأنه أشقر اللون. والمشاهد لموقع بلدة أشيقر يجدها في منخفض من الأرض، تنحدر إليه من جهة الغرب عدد من أودية صفراء الوشم، ويظهر أن مكانها في السابق عبارة عن روضة كانت تستغل في عملية الرعي، ومن ثم حفرت فيها بعض الآبار، التي تمّ الاستيطان حولها فيما بعد، وقد تعاقب على سكناها على مرّ العصور عدد من القبائل أشهرها تميم، لها تاريخ عريق يمتد إلى صدر الإسلام بل قبل ذلك.
أشيقر في بعض الأشعار القديمة:
ذكر واديها الشاعر مضرس بن ربعي الأسدي بقوله:
تحمل من وادي أشيقر حاضـره // وألوى بريعان الخيام أعاصره
وذكر أشيقر أيضاً الشاعر الشهير جرير بن عطية الخطفى (ت 110هـ)، وهو يصف طريق ذهابه من بلدته أثيثية إلى الشام، لمقابلة الخليفة الأموي، وذلك في قوله:
أصبحن من نقوى حفير دلحاً // بلوى أشيقر جائلات الأعرض
أشيقر هي عكل قديماً:
أخذت أشيقر بالإضافة إلى اسمها الأصلي اسماً آخراً هو (عكل)، نسبة لقبيلة عكل التي استوطنتها قديما لعدة قرون، وبقي اسم عكل يطلق على أشيقر حتى بعد أن غادرتها قبيلة عكل، ويتردد اسم عكل على ألسنة بعض العوام إلى اليوم.
نقل ياقوت الحموي (ت 626هـ) في كتابه (معجم البلدان)، عن محمد بن إدريس الحفصي اليمامي، من علماء القرن الثالث الهجري، قوله: (الأشيقر جبل باليمامة وقرية لبني عكل).
قال ابن منظور (ت 711هـ)، في لسان العرب: (وعكل: بلد). وورد في وصية صبيح تسمية أشيقر بعكل، وصبيح له وقف مشهور معروف في أشيقر، أوقفه على مصالح المسلمين سنة 747هـ. ويوجد ضمن مخطوطات مكتبة شقراء كتاب (المغني) لابن قدامة، كتب على المجلد 12 منه مبايعة شهد عليها ابن مسند وابن عقبة، يقدر أنها تعود لآخر القرن العاشر الهجري، أو أول الحادي عشر، جاء فيها: (انتقل الكتاب المبارك بالبيع الشرعي في ملك العبد الفقير إلى رحمة ربه موسى بن علي بن عبد .. الخرافي المعروف ببلد نجد تسمى أشيقر، وفي أول الزمان اسمها عكل).
وذكرها باسم عكل الشاعر الأشيقري ابن عبدالرحيم التميمي (ت 1010هـ تقريباً)، حيث قال في قصيدته الهائية المشهورة:
حدّروا بنا من جَو عِكْلٍ وقوّضوا // على كل هباع اليدين اخْطاه
ونجد الشاعر ابن عبدالرحيم يذكر أشيقر باسمها المشهور، مما يدل على استخدام كلا الاسمين في ذلك الزمان فقال:
ألا يا حماماتٍ بعالي وشيقر // وراكن فرقٍ والحمام ربوع
يقول الشيخ محمد بن بليهد (ت 1377هـ) في كتابه (ما تقارب سماعه): (كانت أشيقر قديماً لعكل فارتحلوا عنها فاحتلها التميميون).
أشيقر عند البلدانيين والرّحالة:
ذكرها الحسن الأصفهاني (من علماء القرن الثالث الهجري)، في كتابه (بلاد العرب)، وذكرها الحسن الهمداني (ت بعد 334هـ) في كتابه (صفة جزيرة العرب)، وياقوت الحموي (ت 626هـ) في كتابه (معجم البلدان)، والشيخ محمد بن بليهد (ت 1377هـ) في كتابه (صحيح الأخبار)، والشيخ عبدالله بن خميس في كتابه (معجم اليمامة)، وغيرهم.
ومن الرحالة مؤلف رحلة للحج سنة 1218هـ، والرحالة البريطاني لوريمر (ت 1332هـ) في كتابه (دليل الخليج)، والرحالة البريطاني فيلبي (ت 1380هـ) في كتابه (جزيرة العرب الوهابيين)، عندما أتى لمقابلة الملك عبدالعزيز، وكان مخيماً قرب أشيقر سنة 1336هـ، والرحالة المصري محمد شفيق مصطفى، الذي زار نجداً سنة 1345هـ، ودوّن مشاهداته عنها في كتابه (في قلب نجد والحجاز)، وغيرهم.
من آثار أشيقر الموجودة الآن:
تزخر أشيقر بآثار فكرية ومادية كثيرة يصعب حصرها، وإذا قيل إن لكل مكان فيها وثائق وتاريخ فإن هذا لا يعدو الحقيقة، أذكر منها على وجه الإجمال:
1- الأسوار: يحيط بها سور من جميع الجهات على شكل دائرة يبلغ محيطها أكثر من أربعة كيلو مترات، ويقع بداخله جميع البساتين الزراعية، والمنازل السكنية. ويوجد على هذا السور سابقاً ما يزيد على ثلاثين برجاً لحمايته، وله أربعة أبواب رئيسة هي المصاريع والمربد والعقلة والشريمي، ويوجد داخل نطاق هذا السور تسعة أسوار أخرى قديمة، فالبلدة كانت تتوسع باستمرار، وكلما توسعت أحيط الجزء الجديد بسور وهكذا.
2- الآبار: وهي كثيرة وبأحجام مختلفة، ومشاعة بين عدد من الملاك، فكل بئر تسقي عدداً من البساتين، يربو عدد الآبار داخل السور على ثلاثين بئراً، يرجح أن بعضها يعود للعهد الجاهلي، ومن أشهرها: الجفر والمجاشعيّة والمديبغة والغطفاء والبديعة والسّديس والغبيّة والرّبيعيّة والمسوريّة والعصاميّة، أما خارج سورها فيربو عددها على أربعين بئراً.
3- البساتين الزراعية: وهي كثيرة يبلغ عددها ستمائة بستان تقريباً بين صغير ومتوسط وكبير بعرف الزمن السابق، كل بستان منها محاط بجدار لوحده، وهي متصلة ببعضها البعض، ويتخللها عدة طرق، وأكثرها مغروس بأشجار النخيل، وتكثر في هذه البساتين الأوقاف العامة والخاصة، كما أن الأراضي الواقعة خارج سور البلدة تستغل أيضاً في الزراعة خاصة في فصل الشتاء. ومن أنواع الأوقاف الموجودة في أشيقر: أوقاف للمدرسة، وأوقاف المصاحف والكتب، وأوقاف على المساجد، والسرج للإضاءة، ولأكفان الموتى ولبن للقبور، وللفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، وأوقاف لتفطير الصائمين، وبيوت الغرباء، وللضيوف، وأوقاف لإصلاح الجسور والطرق، وأوقاف لحمام الحرم، وأوقاف المياه من آبار ومشارب ودلاء وقرب للسقيا، وأوقاف الموازين، وغيرها.
4- مقاسم السيول: يغذي بلدة أشيقر خمسة شعاب كبيرة هي السّديس والرّبيعيّة والمسوريّة والمجاشعيّة والوعرى، وضع لهذه الشعاب عراصاً ومقاسم من الحجارة (أي مطاوي)، منذ القدم بهدف توزيع السيول بين بساتين البلدة وإخراج الزائد عن حاجتها.
5- المساجد: فيها ثلاثة مساجد كبيرة قديمة هي المسجد الجامع والفيلقيّة والشمال الذي أمّ فيه الشيخ سليمان بن علي آل مشرّف (ت 1079هـ)، جدّ شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب، كما توجد عدة مساجد تقع بجوار الآبار.
6- المنازل السكنية: تقع في وسط البساتين، إذ تحيط بها أشجار النخيل من كل اتجاه، وهي موزعة على أحياء البلدة السبعة وهي العقدة والعصاميّة والمهاصري والمدينة والشّمال والصّعيداء والنّقيب، يبلغ عدد المنازل فيها أربعمائة منزل تقريباً في طرق منتظمة وبأحجام مختلفة، من أشهرها منزل الشيخ حسن بن علي بن بسّام (ت 945هـ) الذي وقف فيه مكتبته، ومنزل المؤرخ الشهير الشيخ إبراهيم بن صالح بن عيسى (ت1343هـ)، وغيرها.
7- السوق التجاري: يعرف باسم المجلس، ويتوسط المباني السكنية، ويقع المسجد الجامع على جانبه، لا زالت كثير من محلاته موجودة، كانت تعرض فيه كافة السلع، وفيه حركة البيع والشراء والتبادل التجاري، إذ يؤمه سكان البلدان المجاورة وسكان البوادي لشراء حاجاتهم وبيع منتوجاتهم، وقد وصفه الرحالة البريطاني فيلبي بأنه على شكل معين، وأنه واسع ورحب، ويوجد به أكثر من ثلاثين محلاً.
8- الوثائق والمخطوطات: في حوزة أهالي أشيقر آلاف الوثائق دُوّنت على مدى عدة قرون منذ القرن الثامن الهجري، كتبت في موضوعات مختلفة، فمنها وثائق المبايعات والمشتريات والوصايا والأوقاف والمداينات والشهادات والمراسلات وغيرها، أما مخطوطات العلماء فلا يزال لها بقية، وأكثرها تفرق يمنة ويسرة داخل الجزيرة العربية وخارجها، وتجدر الإشارة إلى أن أقدم مخطوط بخط عالم نجدي موجود أصله حتى الآن هو الجزء الأول من كتاب (الإفصاح عن معاني الصحاح) لابن هبيرة، بخط الشيخ منيف بن إسماعيل بن بسّام أحد علماء أشيقر، نسخه سنة 882هـ.
9- القصص والأمثال والأشعار: تكتنـز ذاكرة أشيقر التاريخية عدد كبير منها، وتزخر بها المجالس، فهي مادة أغلب الاجتماعات اليومية، يشترك في روايتها وإبداعها جميع طبقات المجتمع دون استثناء، بيد أنه يوجد عدد من الأشخاص تميزوا بها حتى وصفوا بأنهم يمسكون المجالس بالسوالف، وهي تُتناقل شفهياً، وقد ضاع معظمها، ولم يدون المتبقي منها إلا منذ عهد ليس ببعيد، أقدمها يعود للقرن الثامن الهجري، مثل: أخبار العبد الصالح صبيح، وقصة خروج بني وائل، ومن الأمثال قولهم (انقطاعة السديسات فيها خيره عقب ماهو يأخذ ستة غروب زاد عشرة)، ومن الأشعار شعر ابن عبدالرحيم التميمي، والشعر المنسوب لبني هلال أثناء مرورهم بأشيقر، وغيرها.
من مميزات أشيقر:
تميزت أشيقر عن غيرها من البلدان بعدد من الأنظمة والأعراف التي وزّعت المهام، ونظمت سير العمل، وبالتالي خدمت شؤون البلدة، منها: أنظمة توزيع السيول، وأنظمة توزيع السقي، وتنظيم مصارف الأوقاف، وغيرها. ويتم تعيين عدد من الأشخاص لكل شأن من شؤنها، فهناك الأمراء وهم المسؤلون بالدرجة الأولى، ويشرفون على رجال الحسبة، ووكلاء الأوقاف، ووكلاء بيت المال، ونظراء البلدة، وغيرهم. ودونت عدد من الوثائق والسجلات التي تحفظ الحقوق العامة والخاصة، من أهمها (ديوان ضبط أوقاف أشيقر)، و(ديوان تثمين الأراضي)، و(سجل أملاك بيت المال).
وأقدم وثيقة وجدت في العصور المتأخرة في منطقة نجد بأسرها حتى الآن هي وثيقة وقف صبيح، عتيق: عقبة بن راجح، التي كتبت سنة 747هـ، ولا يزال الوقف موجوداً ومعروفاً في أشيقر إلى الآن.
ولعلماء أشيقر الفضل بعد الله في قدح شرارة العلم في منطقة نجد ونشره بعد فترة القرون المجهولة، وقد خرّجت عشرات العلماء في كل قرن، كان لهم جهود في تولي منصب القضاء والإمامة والتدريس والإفتاء في عدد من البلدان داخل الجزيرة العربية وخارجها، حتى قيل عن كثرتهم أنه اجتمع في أشيقر في وقت واحد أربعون عالماً كلهم مؤهلون لتولي منصب القضاء، يوم كان القضاء في ذلك الوقت لا يصل إلى مرتبته إلا فطاحل العلماء. وعلماؤها بدأوا في الظهور منذ القرن الثامن الهجري، واستمروا في نشر العلم إلى اليوم، ولهم انتشار خارج نجد أيضاً. وكانت لهم رحلات قديمة في طلب العلم ونشره منها رحلاتهم إلى الأحساء والعراق والشام ومصر.
وخرّجت أشيقر عشرات العشائر والأسر والأفراد انطلقوا منها في كل اتجاه، وأنشئوا بعد خروجهم بلداناً بل ودولاً، حتى ضرب بكثرة من خرج من أشيقر المثل فقيل: (أشيقر رحم نجد)، ولكثرة ساكنيها قديماً شبهت بالرّمانة المحشية، ولا تزال مسمّيات بعض المرتحلين موجودة فيها.
وتميزت أشيقر في عهدها الماضي بالاستقلالية في إدارة شؤونها، وبالاكتفاء الذاتي من جميع النواحي، سواء من المنتوجات الزراعية، أو الصناعية، وغيرها، بل كانت مزدهرة بالحركة التجارية وتمد بعض البلدان المجاورة بالفائض عن حاجتها.
أشيقر في الوقت الحاضر:
واكبت أشيقر في عهدها الحاضر النهضة الحديثة، كسائر بلدان ومدن المملكة، مما يصعب حصره في فقرة صغيرة، فقد وجدت فيها المخططات السكنية الحديثة بكل متطلباتها من سفلتة وإنارة وتشجير، ووجدت فيها عدد من الدوائر الحكومية، والمؤسسات الأهلية، التي تخدم أهالي أشيقر وما يتبعها من أماكن وهجر، وتميزت بوجود المزارع الحديثة التي تنتج كافة أنواع المزروعات خاصة أنواع التمور الممتازة، التي أشتهرت بها، ويوجد فيها عدد من المتنزهات التي جذبت المتنزهين من شتى المناطق، وأخيرا كان لتكاتف أهاليها وتعاضدهم دور مهم في إعمار وترميم بلدة أشيقر القديمة، لإعادتها كما كانت في سالف عهدها، عبر مراحل مدروسة، نفذ بعضها والبقية في الطريق، حتى أصبحت بذلك مثالاً اقتدت به بعض بلدان ومدن المملكة، وجذبت بذلك السياح من الداخل والخارج.
للكاتب :
عبدالله بن بسام البسيمي